فصل: من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا سبيل الانتصاف والإنصاف ولا يقدر على مثله إلا رب الأرباب وأوفر العباد حظا من هذا الاسم من ينتصف أولا من نفسه ثم لغيره من غيره ولا ينتصف لنفسه من غيره.
الجامع هو المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات.
أما جمع الله المتماثلات فكجمعه الخلق الكثير من الإنس على ظهر الأرض وكحشره إياهم في صعيد القيامة.
وأما المتباينات فكجمعه بين السموات والكواكب والهواء والأرض والبحار والحيوانات والنبات والمعادن المختلفة كل ذلك متباين الأشكال والألوان والطعوم والأوصاف وقد جمعها في الأرض وجمع بين الكل في العالم وكذلك جمعه بين العظم والعصب والعرق والعضلة والمخ والبشرة والدم وسائر الأخلاط في بدن الحيوان.
وأما المتضادات فكجمعه بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في أمزجة الحيوانات وهي متنافرات متعاديات وذلك أبلغ وجوه الجمع.
وتفصيل جمعه لا يعرفه إلا من يعرف تفصيل مجموعاته في الدنيا والآخرة وكل ذلك مما يطول شرحه.
تنبيه:
الجامع من العباد من جمع بين الآداب الظاهرة في الجوارح وبين الحقائق الباطنة في القلوب فمن كملت معرفته وحسنت سيرته فهو الجامع ولذلك قيل الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه وكان الجمع بين الصبر والبصيرة متعذر لذلك ترى صبورا على الزهد والورع لا بصيرة له وترى ذا بصيرة لا صبر له والجامع من جمع بين الصبر والبصيرة والسلام.
الغني المغني الغني هو الذي لا تعلق له بغيره لا في ذاته ولا في صفات ذاته بل يكون منزها عن العلاقة مع الأغيار فمن تتعلق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقف عليه وجوده أو كماله فهو فقير محتاج إلى الكسب ولا يتصور ذلك إلا لله سبحانه وتعالى.
والله عز وجل هو المغني أيضا ولكن الذي أغناه لا يتصور أن يصير بإغنائه غنيا مطلقا فإن أقل أموره أنه محتاج إلى المغني فلا يكون غنيا بل يستغني عن غير الله بأن يمده بما يحتاج إليه لا بأن يقطع عنه أصل الحاجة والغني الحقيقي هو الذي لا حاجة له إلى أحد أصلا والذي يحتاج ومعه ما يحتاج فهو غني بالمجاز وهو غاية ما يدخل في الإمكان في حق غير الله سبحانه وتعالى.
وأما فقد الحاجة فلا ولكن إذا لم يبق حاجة إلا إلى الله تعالى سمي غنيا ولو لم يبق له أصل الحاجة لما صح قوله تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} 47 سورة محمد الآية 38 ولولا أنه يتصور أن يستغني عن كل شيء سوى الله عز وجل لما صح لله تعالى وصف المغني.
المانع هو الذي يرد أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان بما يخلقه من الأسباب المعدة للحفظ وقد سبق معنى الحفيظ وكل حفظ فمن ضرورته.
منع ودفع فمن فهم معنى الحفيظ فهم معنى المانع والمنع إضافة إلى السبب المهلك والحفظ إضافة إلى المحروس عن الهلاك وهو مقصود المنع وغايته إذ المنع يراد للحفظ والحفظ لا يراد للمنع فكل حافظ مانع وليس كل مانع حافظا إلا إذا كان مانعا مطلقا لجميع أسباب الهلاك والنقص حتى يحصل الحفظ من ضرورته.
الضار النافع هو الذي يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب إلى الله تعالى إما بواسطة الملائكة والإنس والجمادات أو بغير واسطة فلا تظنن أن السم يقتل ويضر بنفسه وأن الطعام يشبع وينفع بنفسه وأن الملك والإنسان والشيطان أو شيئا من المخلوقات من فلك أو كوكب أو غيرهما يقدر على خير أو شر أو نفع أو ضر بنفسه بل كل ذلك أسباب مسخرة لا يصدر منها إلا ما سخرت له.
وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب في اعتقاد العامي وكما أن السلطان إذا وقع بكرامة أو عقوبة لم ير ضرر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذي القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والأسباب وإنما قلنا في اعتقاد العامي لأن الجاهل هو الذي يرى القلم مسخرا للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يده لله سبحانه وتعالى وهو الذي الكاتب مسخر له فإنه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التي لا تردد فيها صدر منه حركة الأصابع والقلم لا محالة شاء أم أبى بل لا يمكنه أن لا يشاء فإذا الكاتب بقلم الإنسان ويده هو الله تعالى وإذا عرفت هذا في الحيوان المختار فهو في الجماد أظهر.
النور هو الظاهر الذي به كل ظهور فإن الظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نورا ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود ولا ظلام أظلم من العدم فالبريء عن ظلمة العدم بل عن إمكان العدم المخرج كل الأشياء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود جدير بأن يسمى نورا والوجود نور فائض على الأشياء كلها من نور ذاته فهو نور السموات والأرض وكما أنه لا ذرة من نور الشمس إلا وهي دالة على وجود الشمس المنورة فلا ذرة من موجودات السموات والأرض وما بينهما إلا وهي بجواز وجودها دالة على وجوب وجود موجدها وما ذكرناه في معنى الظاهر يفهمك معنى النور ويغنيك عن التعسفات المذكورة في معناه.
الهادي هو الذي هدى خواص عباده أولا إلى معرفة ذاته حتى استشهدوا بها على الأشياء وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا بها على ذاته وهدى كل مخلوق إلى ما لابد له منه في قضاء حاجاته فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه وأحواها وأبعدها عن أن يتخللها فرج ضائعة وشرح ذلك يطول وعنه عبر قوله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} 20 سورة طه الآية50 وقال تعالى: {والذي قدر فهدى} 87 سورة الأعلى الآية 3.
والهداة من العباد الأنبياء والعلماء الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الأخروية وهدوهم إلى صراط الله المستقيم بل الله الهادي لهم على ألسنتهم وهم مسخرون تحت قدرته وتدبيره.
البديع هو الذي لا عهد بمثله فإن لم يكن بمثله عهد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في كل أمر راجع إليه فهو البديع المطلق وإن كان شيء من ذلك معهودا فليس ببديع مطلق ولا يليق هذا الاسم مطلقا إلا بالله سبحانه وتعالى فإنه ليس له قبل فيكون مثله معهودا قبله وكل موجود بعده فحاصل بإيجاده وهو غير مناسب لموجده فهو بديع أزلا وأبدا.
وكل عبد اختص بخاصية في النبوة أو الولاية أو العلم لم يعهد مثلها إما في سائر الأوقات وإما في عصره فهو بديع بالإضافة إلى ما هو منفرد به وفي الوقت الذي هو منفرد فيه الباقي هو الموجود الواجب وجوده بذاته ولكنه إذا أضيف في الذهن إلى الاستقبال سمي باقيا وإذا أضيف إلى الماضي سمي قديما والباقي المطلق هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ويعبر عنه بأنه أبدي.
والقديم المطلق هو الذي لا ينتهي تمادي وجوده في الماضي إلى أول ويعبر عنه بأنه أزلي وقولك واجب الوجود بذاته متضمن لجميع ذلك وإنما هذه الأسامي بحسب إضافة هذا الوجود في الذهن إلى الماضي والمستقبل.
وإنما يدخل في الماضي والمستقبل المتغيرات لأنهما عبارتان عن الزمان ولا يدخل في الزمان إلا التغير والحركة إذ الحركة إنما تنقسم إلى ماض ومستقبل والمتغير يدخل في الزمان بواسطة التغير فما جل عن التغير والحركة فليس في زمان فليس فيه ماض ومستقبل فلا ينفصل فيه القدم عن البقاء بل الماضي والمستقبل إنما يكون لنا إذ مضى علينا وفينا أمور وستتجدد أمور ولابد من أمور تحدث شيئا بعد شيء حتى تنقسم إلى ماض قد انعدم وانقطع وإلى راهن حاضر وإلى ما يتوقع تجدده من بعد فحيث لا تجدد ولا انقضاء فلا زمان.
وكيف لا والحق سبحانه وتعالى قبل الزمان وحيث خلق الزمان لم يتغير من ذاته شيء وقبل خلق الزمان لم يكن للزمان عليه جريان وبقي بعد خلق الزمان على ما عليه كان ولقد أبعد من قال البقاء صفة زائدة على ذات الباقي وأبعد منه من قال القدم وصف زائد على ذات القديم وناهيك برهانا على فساده ما لزمه من الخبط في بقاء البقاء وبقاء الصفات وقدم القدم وقدم الصفات.
الوارث هو الذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك وذلك هو الله سبحانه وتعالى إذ هو الباقي بعد فناء الخلق وإليه مرجع كل شيء ومصيره وهو القائل إذ ذاك {لمن الملك اليوم} 40 سورة غافر الآية 16 وهو المجيب {لله الواحد القهار} 40 سورة غافر الآية 16 وهذا بحسب ظن الأكثرين إذ يظنون لأنفسهم ملكا وملكا فينكشف لهم ذلك اليوم حقيقة الحال وهذا النداء عبارة عن حقيقة ما ينكشف لهم في ذلك الوقت.
فأما أرباب البصائر فإنهم أبدا مشاهدون لمعنى هذا النداء سامعون له من غير صوت ولا حرف موقنون بأن الملك لله الواحد القهار في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة وكذلك كان أزلا وأبدا وهذا إنما يدركه من أدرك حقيقة التوحيد في الفعل وعلم أن المنفرد بالفعل في الملك والملكوت واحد وقد أشرنا إلى ذلك في أول كتاب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فليطلب منه فإن هذا الكتاب لا يحتمله.
الرشيد هو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سنن السداد من غير إشارة مشير وتسديد مسدد وإرشاد مرشد وهو الله سبحانه وتعالى.
ورشد كل عبد بقدر هدايته في تدابيره إلى ما يشاكل الصواب من مقاصده ودينه ودنياه.
الصبور هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه بل ينزل الأمور بقدر معلوم ويجريها على سنن محدود لا يؤخرها على آجالها المقدورة لها تأخير متكاسل ولا يقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل بل يودع كل شيء في أوانه على الوجه الذي يجب أن يكون وكما ينبغي وكل ذلك من غير مقاساة داع على مضادة الإرادة.
وأما صبر العبد فلا يخلو عن مقاساة لأن معنى صبره هو ثبات داعي الدين أو العقل في مقابلة داعي الشهوة أو الغضب فإذا تجاذبه داعيان متضادان فدفع الداعي إلى الإقدام والمبادرة ومال إلى باعث التأخير سمي صبورا إذ جعل باعث العجلة مقهورا وباعث العجلة في حق الله سبحانه معدوم فهو أبعد عن العجلة ممن باعثه موجود ولكنه مقهور فهو أحق بهذا الاسم بعد أن أخرجت عن الاعتبار تناقض البواعث ومصابرتها بطريق المجاهدة. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
قوله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}
قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَوَّلُ الْحَشْرِ جَلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْيَهُودِ، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى خَيْبَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الشَّامِ. وَقال الزُّهْرِيُّ: قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ فَأَجْلَاهُمْ إلَى الشَّامِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا الْحَلْقَةَ، وَالْحَلْقَةُ السِّلَاحُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ وَلَا اسْتِرْقَاقٍ وَلَا دُخُولٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَا أَخْذَ جِزْيَةٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ أَوْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، قال اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قولهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وَقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَإِدْخَالِهِمْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُجْلُوهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُقَاوِمَتِهِمْ فِي إدْخَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَوَازُ مُصَالَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى مَجْهُولٍ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَعَلَى الْحَلْقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فِيهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.